المقالات
النفس الوعظي في قصص كلاويز
عدنان حسين أحمد
صدر عن دار “المدى” بدمشق كتاب جديد يحمل عنوان “ثلاث قصص للفتيان” للقاصة والروائية الكردية كلاويز صالح فتّاح ترجمة الشاعر والباحث الكردي جلال زنكابادي. وعلى الرغم من أنّ هذه القصص مخصصة للفتيان أصلاً، إلاّ أنّ هذا التخصيص لا يمنع الكبار من قراءتها والاستمتاع بمضامينها الفكريّة والفنيّة على حد سواء.
لا شكّ في أنّ النبرة الوعظية ستعلو في القصص الثلاث التي وردت حسب التسلسل التالي “قصة لولو”، “ مستان وسابيه في الليلة القمراء” و “سبعة أبطال أصدقاء”، ذلك لأن القصص المكتوبة للفتيان لابد أن تكون إرشادية بشكل من الأشكال، ولابد أن يكون البطل أنموذجاً يُقتدى به.
ولو تفحصنا القصص الثلاث لوجدنا أبطالها جميعاً نماذج طيبة في السلوك من جهة، وفي التفرّد الثقافي والاجتماعي والأخلاقي من جهة ثانية. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الشخصيات الأيقونيّة مثل “تريفه”، “وِريا”، “مستان” الذين تحولوا بفعل سلوكهم الذي يمثل انعكاساً حقيقياً لثقافتهم العميقة، ولرؤيتهم الإنسانية الثاقبة، تحولوا إلى نماذج أصيلة يتوق الآخرون لتقليدهم أو الاقتداء بهم دائماً.
قصة لولو
على الرغم من أنّ القاصة كلاويز قد عوّمت المكان في هذه القصة ولم تحدّده بالضبط، إلاّ أننا نعرف من الجملة الاستهلالية بأن أحداث القصة ستدور في مدينة كركوك أو في حيّ من أحيائها الذي فلتَ من التسمية أو نجا من التشخيص الذي أفادَ القصة في خروجها من الإطار الخاص الضيّق إلى المناخ العام الرحب. تبدأ القصة فعلياً حينما خرج ذات يوم “وِريا” وشقيقته “تريفه” من منزلهما لزيارة قريبة مريضة لهما نيابة عن أمهما “فاطمة” المتوعكة الصحة هي الأخرى. لابد من الإشارة إلى أنّ “وِربا” عمره خمس عشرة سنة، وأنّ “تريفه” عمرها أربع عشرة سنة. وفي الطريق إلى منزل قريبتهما المريضة تناهت إلى سمعهما أصوات ضاجّة مقهقهة،وحينما اقتربا من مصدر الضجيج وجدا مجموعة من الفتيان الصغار ينخسون قطة صغيرة بالعصي والعيدان المدبّبة فيما كانت هي تتلوى وتموء من شدة الألم. تدخّل “وريا” و “تريفه” في الحال وأنقذا القطة المسكينة من أيدي الأطفال المشاكسين الذين تحجّرت قلوبهم. وفي هذه اللحظة ينفتح أحد الأبواب ويخرج منه رجل مهندم يتعرّف على وريا في الحال، ويعرف منه حكاية القطة المسكينة التي أوسعها الفتيان المتشيطنون وخزاً وضرباً. تميّز الدكتور حسن غيظاً حينما رأى القطة الصغيرة مدماة ولاذت بحجر كبير قرب “وريا”، وكاد أن يخرج عن طوره، لكنه ضبط أعصابه، واكتفى بالقول بأن الناس المتخلّفين الجهلة هم الذين يعاملون الحيوانات بهذه الطريقة الفظّة القاسية. ثم راح يسرد للأخوين وريا وتريفه الطريقة المُثلى التي يعامل بها الأوروبيون المتحضرون حيواناتهم الأليفة مثل القطط والكلاب والطيور وكيف يوزعون الإعلانات في كل مكان إذا فُقِد أحد هذه الحيوانات أو ضلّ الطريق. يذهب “وريا” بصحبة القطة المُدماة إلى عيادة الدكتور حسن الذي اتصل هاتفياً بصديقه سرْكو، الطبيب البيطري الذي بدأ بمعالجة القطة، وتعقيم جراحها، وزرقها بإبرة مهدّئة. عاد وِريا إلى البيت وهو يخشى من رفض والديه لوجود هذه القطة الصغيرة في المنزل، لكنه فوجئ بتعاطف جميع أفراد الأسرة معه. ولكي لا تأخذ منا التفاصيل جزءاً كبيراً من هذا المقال لابد أن نشير إلى أن الفاعلَين الأساسيين في هذه الجريمة وهما نوروز وكمال قد شعرا بالذنب وتأنيب الضمير كثيراً، وقررا أن يربي كل منهما حيواناً داجناً، بل ذهبا إلى أبعد من ذلك حينما ساهما مع بقية الأصدقاء والصديقات في تأسيس “جمعية للدفاع عن الحيوان”. إن هذا الانقلاب السلوكي من الجانب السلبي إلى الجانب الإيجابي هو الهدف الأساسي الذي كانت تسعى إليه القاصة كلاويز وتبذل قصارى جهدها لترسيخه في أذهان الفتيان وقلوبهم وضمائرهم. كما أن القصة نفسها تكشف عن الطريقة المثلى التي يتعامل بها الأوروبيون أو الناس المتحضرون في مختلف أرجاء العالم مع الحيوانات الأليفة وغير الأليفة على حد سواء.
مستان وسابيه في الليلة القمراء
تمهِّد كلاويز في قصة “مستان. .” للقارئ بالكثير من المعلومات عن كردستان الكبرى التي تجزأت قبل عشرات السنين وتوزعت بين العراق وتركيا وإيران “لم تُشِر القاصة إلى سوريا”، ولكن هذه الحدود المصطنعة بين كردستان الأم في طريقها إلى الزوال الحتمي في السنوات القليلة القادمة. إذا كان المكان كركوك في القصة السابقة، فإن القاصة كلاويز ارتأت أن يكون مسرح الأحداث في هذه القصة الرمزية مرتفعات “بادينان” وهي المنطقة التي تشمل في العادة دهوك والعمادية وسرسنك وزاخو. اختارت كلاويز في هذه القصة شخصية “مستان”، وأسندت إليها دور البطولة الكاملة. وسنعرف أنها امرأة ذكية وشجاعة تنتمي إلى إحدى القبائل الكردية الرحّل التي تعيش في المناطق المرتفعة النائية. ومن صفاتها الأخرى أنها حسناء، خفيفة الظل، تقودها دائماً نقطة الضوء المشعّة في ذهنها المتوقد أبداً. إنّ أجمل ما في هذه القصة هو بناؤها المعماري القائم على مستويين: الأول هو مجموعة النساء الصديقات اللواتي يذهبن إلى النبع للاغتسال وجلب الماء الصالح للشرب، والثاني هو الدُبّة التي تتنصت على حكايات النسوة، وأسرارهن الشخصية، ومواعيدهن القادمة. حينما تعرف الدبّة بأن مستان تذكِّر بقية النسوة بالذهاب إلى النهير في فجر اليوم بهدف الاستحمام تخبر شقيقها الدب بالأمر، لكنه لا يجازف بحياته فهو يخشى من الإنسان لأنه قد يستعمل الرصاص ويرديه قتيلاً في الحال. تتقمّص الدُبّة شخصية “سابيه”، وتلّف نفسها بقطعة قماش، وتذهب في حدود الثانية عشرة ليلاً إلى “مستان” وتنجح في استدراجها إلى النهير، لكن “مستان” اكتشفت الخدعة وهي في منتصف الطريق، وليس بإمكانها العودة، لذلك قررت المضي في المجازفة حتى نهايتها، وبدأت تغسل الدُبّة، لكنها كانت تفكر بحرقها بالماء المغلي، فيما كانت الدُبّة تفكر بالتهام “مستان” بعد الانتهاء من عملية الغسل التي استغرقت وقتاً طويلاً. في هذه الأثناء تتراجع “مستان” عن فكرة صبّ الماء الساخن على الدُبّة، كما تتراجع الدُبّة عن فكرة التهام “مستان”، بل تقرر أن تصاحبها، وتتخذ منها صديقة عزيزة. هكذا إذاً تتخلى “مستان” عن خواطرها الشرّيرة، كما تتخلى الدُبّة عن نزعتها الحيوانية الشرسة. تقرر “مستان” أن تجلب الطعام كل يوم وتضعه أمام الكهف لأنها تعتقد أن الحيوانات الشرسة يمكن أن تُدجّن إذا ما توفر لها الطعام وتصبح حيوانات أليفة شأنها شأن القطط والكلاب وبقية الحيولنات الأليفة المدجنة. تحيط “مستان” زوجها “محو” علماً بالأمر فيخبر أهالي القرية فيقرر شيوخها ووجهاؤها تعيينها عمدة للقرية لشجاعتها، ولرجاحة عقلها، وحكمتها التي لا تخفى على أحد.
أمّا القصة الثالثة والأخيرة فتتمحور حول سبعة شبّان تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشر والخامسة عشر وهم “آسو، بختيار، كاوا، آلان، بروسك، ريبوار وهيوا”. يقوم هؤلاء الفتيان مع عوائلهم بسفرة إلى “بيرة مكرون وميركة بان” وقضاء بضعة أيام هناك. بعد تناول الغداء يقرر الشبان السبعة تسلّق الجبل بغية الوصول إلى الحُفر الثلجية، لكنهم يضلون الطريق، ويتيهون لبضع ساعات حيث يقلق الأهل، ويتشاجر الأزواج مع زوجاتهم، وفي خاتمة المطاف ينزل الشبان السبعة باتجاه الآباء الذين كانوا يبحثون عن أبنائهم في اتجاهين مختلفين. يصل الشبان السبعة الذين كانوا يستعينون بمصباح هيوا اليدوي والآباء بفانوسهم الإنكليزي في منطقة وسطى بعد منتصف الليل، ثم يتعانقون، ويتجاوزوا الأزمة التي مرّت بها العوائل السبعة، ويقرروا في خاتمة المطاف البقاء ليوم آخر لإقامة حفلة خاصة لمناسبة سلامة الأولاد. ربما تكون العبرة الأساسية في هذه القصة هي عدم تقليد الأفلام التي تنطوي على الكثير من الحيل والخدع السينمائية. كما تدعو الشباب إلى عدم التهوّر والقيام بمجازفات لا تُحمد عقباها، الأمر الذي يتسبب في إقلاق الأهل، وإرباكهم، وإفساد المُتع التي جاؤوا من أجل تحقيقها.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن النَفَس الوعظي أو الإرشادي مهيمن ليس على هذه القصص الثلاث حسب، وإنما على غالبية أعمال كلاويز القصصية والروائية مثل “الأم والابن”، “الخادمة” و “العالم غابة” وغيرها من القصص والروايات التي دبّجتها أنامل الكاتبة المبدعة كلاويز صالح فتاح. ولا يفوتني في خاتمة المطاف أن أنوّه بالجهد الكبير الذي بذله الشاعر جلال زنكبادي في ترجمة هذه المجموعة القصصية من الكردية إلى العربية وإضفاء لمساته الأنيقة الواضحة على النص العربي الذي بدا سلساً ومنساباً. وجدير ذكره أنّ زنكابادي قد ترجم كتابين آخرين لكلاويز وهما “أسطورة كلي ناوكردان” و “الخادمة” اللذين سأتوقف عندهما في القريب العاجل.