وتار
كلاويزخان، أكثر من نصف قرن بين السياسة والأدب

 قضت أكثر من نصف قرن من حياتها تتقلب بين السياسة والأدب، نشأت في بيت سياسي وعائلة سياسية، دخلت في فضاءات الأدب وهي في ريعان شبابها، ثم انتقلت حينما تزوجت إلي بيت سياسي آخر، لتعيش في جوّ مشحون بالسياسة متفرغة للأدب و مطلقة خيالاتها في الرواية والقصة.. لم تمنعها السياسة من الارتماء في حضن الأدب، ولم تمنعها واحات الأدب من العيش في كنف السياسة.. تلك هي كلاويزخان، الأديبة والروائية والقاصة..


كلاويز صالح فتاح، مشهورة بـ(كلاويزخان)، عقيلة القائد السياسي التأريخي، والحقوقي المحامي الأديب الروائي المشهور، المرحوم الأستاذ إبراهيم أحمد (بلة)، ولدت سنة 1930 في مدينة الموصل. والدها المرحوم من أهالي مدينة زاخو، ومن عشيرة (قوجةبكي) وهي عشيرة عريقة قديمة تعود أصولها إلى كردستان الشمالية (جنوب شرق تركيا).

 

  • نسبها من جهة الأم:

    جد كلاويزخان، أي (والد أمها) كان ضابطا في الجيش العثماني (تركيا الحالية)، واستشهد في الحرب العالمية الأولى، وكان من أهالي مدينة زوزان في كردستان الشمالية. أما جدتها (والدة أمها) فكانت من أهالي مدينة وان التي تقع أيضا في كردستان الشمالية، وكانت ابنة السيد سليمان السري البرزنجي وجد أحفاد الشيخ محمد من أحفاد الشيخ موسى البرزنجي. تقول كلاويزخان إن جدتها، ككثير من الجدات في كردستان وحتى في العالم، كانت أما أخرى لها، مشيرة إلى أن "جدتي، ربتْني، وكنت ممتنة لها دائما". وتوفيت جدتها حينما أُبْعِدت كلاويزخان وعائلتها إلى جنوب العراق لاحقا.

     

  • مجيء العائلة إلى كردستان الجنوبية والعراق:

    تغيّرت أحوال عائلة جدها (والد أمها ووالدتها) أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وأصبح الوضع لا يطاق، لذلك تضطر العائلة إلى الانتقال من كردستان الشمالية (الجزء التركي من كردستان) إلى كردستان الجنوبية (الجزء العراقي من كردستان). جدها وقبل استشهاده في الحرب العالمية الأولى أوصى لجدتّها وأفراد عائلته بضرورة الذهاب ومغادرة تركيا والتوجه إلى العراق والنجاة من ويلات الحرب ومآسيها. لذلك غادرت العائلة الشمال، واتجهت بعد معاناة نحو الموصل مستقرة في نهاية المطاف في بيت عمة والدتها واسمها (مريم)، وكانت مدينة الموصل حينها مازالت تحت سلطة الدولة العثمانية، وبقيت كذلك حتى تأسيس الدولة العراقية الحديثة. عمة جدتها تلك، أي مريم، كانت ربة عائلتها، لذلك كانت تتزيّا أغلب الأحيان بالأزياء الرجالية، ونادتها كلاويزخان وأطفال العائلة باسم (مامو).

     

    - عدم العودة إلى تركيا:

    بقيت العائلة لسنوات في الموصل، تنتهي الحرب العالمية الأولى ويصل عوائلَ الضباط العثمانيين الذين غادروا تركيا نحو الموصل، نداءٌ للعودة إلى تركيا، بحجة أن الحياة بعد انتهاء الحرب عادت لطبيعتها. لذلك عادت عوائل هؤلاء الضباط والعسكريين إلى تركيا، لكنّ عائلة جدتها بقيت في الموصل ولم تأبه للنداء الموجه إليها، وذلك على نصيحة مقدمة لها من قبل بعض من العوائل والشخصيات التي تربطهم بها علاقة قديمة، بعدم العودة، والبقاء في الموصل، لذلك آثرت العائلة البقاء، ودخل الأولاد والبنات المدارس العراقية، واختلطوا بالمجتمع العراقي.

     

  • عام ميلاد كلاويزخان:

    إن العام الذي ولدت فيه كلاويزخان، عام معروف في التقويم السياسي والقومي لشعب كردستان بشكل عام، وجنوب كردستان (إقليم كردستان/ العراق) بشكل خاص، لأن هذا العام شهد انتقال النضال السياسي القومي الكردي إلى المدن، حسب رأي الخبراء والسياسيين. وذلك يصادف يوم السادس من شهر أيلول عام 1930، اليوم الذي حدثت فيه "معركة السراي" في مدينة السليمانية. تقول كلاويزخان: "ولدتُ سنة 1930. حينما تخرج خالي محمد وصار ضابطا أثناء معركة السراي، أبرقوا له بأن أخته ولدت بنتا، وهي أنا، لأنه يحب أمي كثيرا، وفرح كثيرا بهذه البشرى". وخالها هذا، من زملاء الدراسة مع عبدالكريم قاسم زعيم ثورة الرابع عشر من تموز 1958، الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي وحولت البلاد إلى حكم جمهوري، الخال بعث رسالة هنأ فيها أخته بمولودتها الجديدة وأعرب عن فرحه بها، مطالبا إطلاق اسم كردي عليها.

    في البداية، سميت المولودة باسم آخر، أما إطلاق اسمها الآن، كلاويز، فصار اسما متداولا بين النساء الكرديات في الوقت الحاضر، وله قصة أخرى، لأن هذه المرأة الكاتبة والمناضلة لم تطلق عليها في البداية اسم "كلاويز"، بل كان اسمها "ساجدة"، أي المرأة التي تسجد لله. وكان سبب اختيار هذا الاسم العربي، الذي يدل على من أدى عبادة، يعود إلى المكان والليلة التي ولدت فيها هذه المرأة. تقول كلاويزخان: "ولدت في مدينة الموصل، وكانت في الموصل ليلة تسمى "ليلة المحيا"، حيث يقوم المصلون بالصلاة والسجود لله، وقد أرسلوا تلك الليلة برقية إلى خالي وأبلغوها أن أمي ولدت بنتا وسموها ساجدة". لكن يبدو أن هذا الاسم، لم يكن محل رضا لخالها كي تطلق على فتاة كردية من عائلة عريقة، لذلك طلب تغيير اسمها، "وقال: أناشدكم بالله، فليكن الاسم ليس (ساجدة)، بل (زيان)"، أي الحياة.

    لكن لم يمض وقت طويل، ويتم تغيير اسمها مرة ثانية إلى ساجدة، "وذلك حينما أُبعِدنا بسبب أخوالنا إلى الديوانية وعفك، فغيّروا اسمي إلى ساجدة مرة ثانية". وبقيت تنادى بهذا الاسم حتى تتم خِطبتها من قبل الأديب والمثقف والسياسي إبراهيم أحمد (1914-2000)، وتصبح مخطوبته. فيحب هذا الخطيب، المولع بالقومية الكردية، شأنه شأن خالها، أن يغير اسمها العربي إلى اسم كردي وهو "كلاويز"، ويبدع طريقة فريدة لتثبيت هذا الاسم لدى الناس، طريقة تنبع من فكر كردي وتفكير إنساني، وتنتهي بعمل خيري، "أبو هيرو، الأستاذ إبراهيم، قال يجب أن نغيّر اسمها إلى كلاويز، باسم مجلته هو. و وضع إبراهيم علبة، من ناداني باسم ساجدة، ينبغي عليه أن يضع عشرة فلوس في العلبة، فتم تغيير اسمي بهذه الطريقة إلى كلاويز، وحتى ثبت اسمي بين الناس، مُلِئَت العلبة مرتين أو ثلاث مرات، وأعطوها للفقراء".

     

  • تأثير الأخوال والحب لهم:

    تربت كلاويزخان في كنف جدتها: الجدة حليمة، وفي بيت أخوالها "حمزة عبدالله" و"الخال محمد". القائد المرحوم "حمزة عبدالله" أحد السياسيين والحقوقيين البارزين في زمانه، وهو أحد مؤسسي الحزب الديمقراطي الكردي والسكرتير الأول لهذا الحزب، تقول كلاويزخان "كنت طفلة، حينما زاول خالي حمزة في مدينة زاخو مهنة المحاماة، وتم اعتقاله بتهمة الولاء للحزب الشيوعي. وخالي محمد كان ضابطا في الجيش، فتم تقاعده وهو في سن الشباب. لذلك، ودون اختيار، اختلطت بعالم السياسة والكُردايتي".

    لا شك في أن السياسة بدأت في بيت أخوالها، ووصلت ذروتها عند شريكة حياتها إبراهيم أحمد، "عندما تزوجت والد هيرو، لم نَعِشْ في منزل واحد لمدة سنتين بهناء، بل كل حياتنا عبارة عن الانتقال من مدينة إلى أخرى، حتى استقرينا في لندن. كان إبراهيم أحمد إما في السجن، أو مختفيا في السراديب، أو مناضلا في الجبال. لذلك فإن حياتنا نحن أيضا كانت اختفاء والقلق يساورنا دائما".

    وحينما يدخل السيد مام جلال، في هذه العائلة، عبر رابطة زواج بـ"هيروخان"، الابنة الكبرى للأستاذ إبراهيم أحمد وكلاويزخان، تصبح السياسة جزءا لايتجزّأ من حياتهم.

     

  • ذكرى من ذكريات الطفولة:

كان عمر كلاويزخان خمس سنوات، أي في عام 1935، حينما تخرج القائد الخالد حمزة عبدالله من كلية الحقوق، وأصبح محاميا في زاخو. وكانت القضية الأولى التي عمل عليها كمحامٍ تتعلق بقضايا الأراضي، وتتطلب القضية أن يتصل بعدد من الفلاحين ويتحدث معهم. جدير بالذكر أن ذلك العهد، كان عهدا ملكيا وكان الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب السياسي الوحيد الذي برز في البلاد وله أنصار ومناصرون كثر بين القرويين والفلاحين، وكان معارضا شرسا للنظام السياسي في العراق، لذلك مُنعت فعاليات الحزب السياسية، وإذا عُرِفَ كوادره وأعضاؤه فيتم اعتقالهم على الفور. تقول كلاويزخان "إنّ من الواضح في عائلتنا أن الخال حمزة من مناصري الشيوعيين، وكانت الشرطة تلاحقه منذ أن كان طالبا". وهكذا تم اعتقال خالها. وكانت لحظة اعتقاله لحظة باقية في ذاكرة كلاويزخان كذكرى مؤلمة، "أتذكر، حينما جاؤوا للمرة الأولى وفتشوا منزلنا، ثم اعتقلوا خالي ووضعوا الأصفاد في يديها، وحينما رأيت خالي بهذا الشكل، بكيت كثيرا، وقلت: لا يجوز لكم أن تأخذوا خالي، وخالي تطمئنني وقال: لا، يا روحي، أنا أذهب الآن معهم، وسأعود إليكم لاحقا".

  • الإبعاد عن الأهل والوطن، عادة غير إنسانية للأنظمة العراقية:

    من المعلوم لدى أهل كردستان أن أي كردي شارك في نضال شعب كردستان وثوراته ضد أي نظام حاكم في العراق، يتم إبعاده عن موطنه، هذا إن لم يكن الأمر قتلَه. من هذا المنطلق، يمكن القول إن في فترات نضال الشعب الكردي ضد الأنظمة الحاكمة في العراق، تم إبعاد آلاف الأسر الكردية في محافظات كردستان ومدنها وأقضيتها، بقرار غادر وظالم وغير إنساني صادر من تلك الأنظمة، ونفيهم إلى المحافظات والمدن العراقية في وسط العراق وجنوبه، منها أقضية لواء الديوانية ونواحيها، حيث تم تحويلها إلى لواء سنة 1890، وأصبحت سنة 1969 محافظة، ثم غيّر النظام البعثي برئاسة صدام حسين اسمها إلى محافظة القادسية. هذه المحافظة تقع شرقي نهر الفرات في منطقة الفرات الأوسط، وكانت حينها من أبعد المدن العراقية عن حدود كردستان، وكان أهلها من العرب الشيعة. وقد ولد لكثير من الأسر المبعَدة أولاد تم التحاقهم بالمدارس في تلك المحافظة، وأنهوا دراساتهم فيها.

     

  • النفي إلى جنوب العراق:

    طالت سياسة النفي والإبعاد عائلة كلازويزخان، فتم نفيهم بذريعة العمل السياسي، وذلك بعد اعتقال خالها في زاخو بتهمة الانتماء للشيوعية، وكان النفي في سنة 1935 إلى عدة مدن ومحافظات جنوب العراق، منها صحراء عفك (باللهجة العراقية الدارجة: عفج)، وهو من أقضية محافظة الديوانية. "تم نفينا إلى صحراء عفك، وكنت حينها في الخامسة من عمري، ودخلنا المدرسة أنا وأختي، أمضيت عمري الطفولي بين العرب، لذلك فإن لغتي العربية حتى الآن جيدة و استفدت منها كثيرا".

     

  • استمرار النفي، نواة رواية:

    وكانت العائلة في فترة النفي، اتجهت تلقاء مركز محافظة الديوانية، وبقت هناك لمدة سنتين. ثم تم نقلهم مرة أخرى إلى القرنة في محافظة البصرة جنوب العراق. وكان هذا الانتقال لفتاة ذكية وذات خيال خصب، أدى إلى انفجار الموهبة الكتابية لديها، لكونهم قريبين من أهم المناطق المائية في العراق حيث تعد القرنة مكان التقاء نهري دجلة والفرات، "فكان التقاؤهما أسفل بيتنا، وكتبت رواية أكملت منها النصف عنْونْتُها (جدران في الماء)، لأن جدران بيتنا كانت في ماء نهر دجلة، وحينما وصلنا المنطقة في البداية، وأثناء مرور السفن يحدث صوت خرير الموجات المائية ضاربة جدران بيتنا، فلم نستطع النوم بسببها". هذا الحكي وهذه الذكريات التي ترويها كلاويزخان، يوافق تماما مع الرأي القائل إن انغلاق كردستان جغرافيا، وعدم تماس مساحتها المباشر مع المحيطات والبحار مثل الدول المجاورة، جعل الخيال الإبداعي في مجال الأدب والفن الكرديين، ذا نقص، لأن هذا المصدر الطبيعي الذي أعطاه الله، مليء بالجمال والخيال الرحب الذي يمكن أن يكون محركا ومفجّرا للنفس وكوامنها والفكر ومناظرها، في الواقع وفي الخيال أيضا.

     

  • أول زيارة إلى السليمانية، دار الملك البابانيين:

    وجود الخال حمزة في حياة كلاويزخان، عبارة عن حب إنساني عالٍ بين هذا الخال المفكر، وهذه الابنة الأخت المليئة بالحيوية والمفعمة بالذكاء. لذلك فإن سبب مجيئها الأول إلى السليمانية – دار الملك البابانيين، كما أطلق عليها الشيخ رضا الطالباني، أو مدينة الحياة في تعبير مام جلال، أو مدينة الثورات و التضحيات حسب تعبير الشاعر كامران موكري – يعود إلى خالها المناضل المشهور في مسيرة النضال الكردي، لأن حمزة عبدالله كان من القادة الكرد المثقفين الذين ناصروا "جمهورية كوردستان" في مدينة مهاباد في شرق كردستان (غرب إيران) برئاسة الشهيد القاضي محمد، فناصرَ الجمهوريةَ في مهاباد وعاد سرا إلى السليمانية مختفيا في منزل الأستاذ إبراهيم أحمد مراسلا عائلته أن يأتوا إليه لزيارته في السليمانية. تقول كلاويزخان بهذا الصدد "زرنا السليمانية لأول مرة في سنة 1946، ونزلنا في منزل الأستاذ إبراهيم أحمد (زوجها فيما بعد)، وكان الخال حمزة عبدالله صديقا محببا وذا ثقة عند إبراهيم أحمد".

  • الزواج، وتلاحم الأصدقاء أكثر:

    بعد سنة، أي في سنة 1947، وحينما يصل عمر كلاويزخان 17 سنة، اختارها الأستاذ إبراهيم أحمد لتكون شريكة حياته، وكان عمره 33 سنة. وبهذا الاختيار تصل علاقة الصداقة والوفاء والقرب بين الشخصيتين حمزة عبدالله وإبراهيم أحمد وهما شخصيتان سياسيتان بارزتان في النصف الأول من القرن العشرين في العراق وكردستان، تصل إلى مستوى عال وأقوى من ذي قبل، لأنهما صارا من عائلة واحدة بسبب هذا الزواج وهذه المصاهرة، وكان لهذا النوع من الزواج نظير في مختلف المجتمعات أو بين الشخصيات، حيث حدث أن زوّج شخص محبب قريب، لصديق له أخته أو ابنته، مما أعطى الحياة النضالية والصداقة بينهما بعدا آخر أقوى من ذي قبل.

     

  • امرأة مثقفة، حينما تكون الموهبة أكبر من الشهادة:

    من حسن حظ كلاويزخان، أنها ولدت و نشأت في كنف عائلة مثقفة تتوق إلى أن تنشأ أبناؤها وبناتها نشأة ثقافية، فنرى أنها دخلت المدرسة والتحقت بها أينما كانت العائلة. فتقول "كانت دراستنا جيدة، وكانت مدرستنا الابتدائية في منزل كبير، ثم بنوا مدرسة أخرى وكان لها معلمون جيدون، إحدى المعلمات اسمها صبرية، أعطوها غرفة في المدرسة لتعيش مع أمها، وكانت بشوشة جدا، تنظر بين فينة وأخرى لساعتها وتقول: اذهبي وقولي لأمي حان وقت إعداد الرز"، تروي هذا كأنه من ذكريات الطفولة، الجميلة.

    من المعلوم أن كلاويزخان، بخلاف زوجها الأستاذ إبراهيم أحمد، أو زوج ابنتها: مام جلال، أو ابنتها هيروخان، أو أبنائها وبناتها الآخرين، لم تكمل الدراسة المتوسطة والإعدادية حتى تدخل كلية أو معهدا وتحصل على شهادة في أحد التخصصات، "درست في المدرسة حتى الصف الأول المتوسط، و زوّجوني في 17 من عمري".

    ينبغي الإشارة هنا، إلى حقيقة مهمة، متعلقة بنظام التربية والتعليم في النصف الأول والربع الثاني من القرن العشرين في العراق، حيث أكد المختصون وأثبتت التجارب أن كل طالب، أو طالبة، التحق بالمدرسة في السادسة من عمره، أو التحق بالدراسة في المدارس التي تسمى مدارس "محو الأمية"، واستطاع أن يكمل الصف السادس، فإنه يصبح ذا قدرة كاملة في الكتابة والقراءة والمعلومات العامة مما يؤهله للمشاركة في عملية التعليم في مرحلة عمرية مقبلة فيما بعد، ويتم تعيينه كـ(معلم ابتدائي) في الحملة الوطنية الشاملة التي أطلقت بعد الحكم الملكي باسم حملة (محو الأمية)، واستفاد منها أهالي كردستان أيضا. ومهّد لهم الطريق للتعيين في المؤسسات والهيئات الحكومية الأخرى، لأن فرص العمل كثيرة وكوادر العمل الذين يعرفون القراءة والكتابة قليل في المراحل الأولية للنهضة الاقتصادية والاجتماعية في العراق، آنذاك. وكانت كلاويزخان في هذا المجال، أنموذجا حيا ومشرقا استطاعت أن تثبت أن الثقافة لا تعني فقط الحصول على الشهادات العليا والتخصص في الاختصاصات المهمة، بل يمكن أن نقول إن أمارات الثقافة عبارة عن وجود التمكن في الكتابة والقراءة وتعلم اللغة، جنبا إلى جنب مع تقوية الشخصية وتربية النفس وإدراك الواجبات والحقوق والمشاركة الفعالة في مجالات الحياة المختلفة.

    وكانت هذه المرأة، في هذا المضمار، قدوة وسبّاقة وشخصية أخرى من الشخصيات الكردية وأنموذجا لكثير من النساء أولات الشهادات العليا.

     

  • التعايش، سمة العراق القديم

    لا شك في أن مكونات العراق وشعوبها عاشوا معا في كثير من الحقبات التأريخية القديمة والمعاصرة، بسلام وهدوء وأخوة. وقد انعكس ذلك في العلاقات العائلية والإنسانية الجميلة والعالية التي تجسدت قبل مئات السنين بين الكرد والعرب والتركمان والكلدو الآشوريين، والمسلمين والمسيحيين والصابئة والإيزيديين والشبك والكاكائيين والسنة والشيعة، بعيدة عن الظلم والاضطهاد الذي مارسته الأنظمة السياسية المستبدة في هذا البلد. ربما أحد هذه الأمثلة، تجسدت في العلاقة العائلية التي ربطت بين الأسر المنفية من كردستان إلى المناطق الأخرى في العراق، التي يعيش فيها إما العرب الشيعة  أو العرب السنة. أو العلاقة القوية الموجودة بين العسكريين في الجيش، على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وأديانهم، وربما هي باقية إلى الآن. وهناك اختلاط آخر للكرد مع غيرهم، وذلك في الجامعات العراقية حيث أغلب الطلاب الكرد – قبل تأسيس جامعة السليمانية، وحتى بعده – كانوا يدرسون في المدن العراقية الأخرى و صاروا أصدقاء أوفياء للمواطنين العراقيين أصحاب الفكر الحر، بعيدا عن التعصب والتشدد الفكري والسياسي. إضافة إلى ما ذكرناه، هناك علاقة الزواج التي كانت دوما سببًا لاختلاط هذه المكونات العراقية فيما بينهم، مع الإشارة إلى أن هذه العلاقة، تمر اليوم بأخطر أيامها ومراحلها على مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، على مر التأريخ العراقي، وذلك بسبب التقاتل والإرهاب والطائفية المقيتة، وغيرها من الأسباب. ومن الجدير بالذكر ونحن بصدد الحديث عن هذا التعايش السلمي بين المكونات العراقية، أن نأتي بشهادة كردية على لسان كلاويزخان للعراق الذي كان معروفا بتعايشه السلمي قبل، والذي نرى دعاة هذا التعايش في العراق على مستوى القادة السياسيين الكبار أمثال إبراهيم أحمد، وحمزة عبدالله والرئيس مام جلال الذين ينادون إلى الأخوة بين الكرد والعرب. فهذه كاتبتنا تقول "بسبب كوننا أطفالا حين تم نفينا، اختلطنا بهم، وكلهم من الشيعة، وحينما علموا أننا كردٌ ومنفيون من قبل الحكومة، ساعدونا كثيرا، وصاروا كالأبوين لنا، ويحبوننا كثيرا. وقد توفيت جدتي هناك، جدتي الحنونة. وهكذا كانت حياتنا في تلك الآونة".

     

  • إبراهيم أحمد، فارس الأحلام:

           تروي كلاويزخان حول زواجها بالأستاذ إبراهيم أحمد أن "الخال حمزة وأبا هيرو كانا صديقين، فقالوا نزوّجكِ إياه، فلم أبدِ أي اعتراض، فصرت خطيبته".

           يظهر من هذا الحكي البسيط، أن هذا الزواج الذي استمر بين كلاويزخان والأستاذ إبراهيم أحمد أكثر من نصف قرن (1947-2000)، لم تسبقه أي سابقةِ حبٍّ وعشق، لكنّه، وبخلاف الزيجات التي سبقتها علاقة حب وتنتهي بالتفريق أو بحياة بعيدة عن السرور ومليئة بالمآسي والويلات، بخلاف هذا، فقد كان زواجهما مليئًا بالحب والحنان، مع كل ما اعترض حياتهما من عناء و هروب واختفاء وغيرها. عدّت كلاويزخان، الأستاذَ إبراهيم أحمد "فارس أحلامها"، لقب يجسد أعلى مستويات الرضا عن الرجل، وحبه في قلب زوجته. فتقول كلاويزخان "كوّنت الحياة الزوجية مع الأستاذ إبراهيم أحمد عام 1947، مع شخص مثقف محب للكورد، غير آبه لنفسه، مُفَدٍّ بالحياة. كان أبو هيرو فارس أحلامي وخيالاتي".

           هذه المرأة المقدامة، تبدي حبها العميق اللامتناهي لزوجها بكلمات تعطر حبا وعشقا، فتقول "الأسطر التي كتبتها له، تعبر عما كانت عليه علاقتنا. حيث أهديت له كتابا وكتبت له فيه: إلى أول كلمة عشق وقتَ جمالي.. لمخْلِص عمري الذي ليس له مثيل.. لآخر سطري في العشق والحب.. كان أليفي في الجبال.. كان وطني في الغربة والترحال.. لمن كان أنظف من النظافة وأصدق من الصدق.. قلعة أملي العالية.. لمن كنتُ هايمةَ وجهِه ومجنونَ روحه.. البحر اللامتناهي لمعتقداتي وعشوتي.. كيف أعيش الآن بدونه؟ كيف أقنع نفسي أنه توارى عني في لحظة؟".

     

  • حنان الأمومة، الفخر بالأولاد:

         الأطفال، هبة من الله سبحانه للأزواج، أجمل ثمرة الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة لمن يؤمن بإنجاب فلذات القلب وثمرات الحب. وكانت الحياة الزوجية لكلاويزخان التي دخلتها منذ صباها، أثمرت بتحقيق كبرى أمنيات النساء وهي الأمومة، "فولدت لي بعد سنة، هيرو". وما أدراك من هيرو؟ هي التي أجبرها الحس القومي أن تواصل درب والده ووالدتها وتختار فيما بعد حياة النضال والكردايتي وتحيا حياة الأبطال من البيشمركة وتكون سندا لزوجها، حتى تحقيق أهداف شعب كردستان ونضاله. هيرو، التي مُنِعت من حنان والدها وهي في عمر ستة أشهر، ولمدة سنتين، "كان عمر هيرو ستة أشهر، إذ جاؤوا واعتقلوه (أي إبراهيم أحمد، الوالد)، وسُجِن لما يقارب سنتين".

        وقد وصلت سعادة هذين الزوجين المناضلين، إلى القمة حينما صارا أبوين لست بنات وابنين، وهم الآتي: (هيرو، شاناز، هَتاو، ليلوز، كوردة، هيفي، هَلو، هاوري)، "ولدت لي الطفلة الثانية والثالثة في كركوك، فهما كركوكيتان. وهكذا حياتنا، من مكان إلى مكان".

        لدى كلاويزخان، حس مليء بالفخر لولديها وبناتها، "أفتخر بأولادي، ولاسيما هيرو و هَلو. تركتْ هيرو أولادها وذهبت للنضال إلى الجبال مع زوجها مام جلال. وأنا ربّيت أولادها. كان مام جلال في تلك الأوقات في القاهرة ولم يلجؤوا إلى الجبال، ولم يؤسس بعد الاتحاد الوطني الكوردستاني، ربّيت أولاد هيرو بالبكاء والدموع، لأن الغربة مؤلمة جدا، فكان مام جلال وهيرو يعيشان في الجبال".

        هذه الشخصية الكبيرة والمحبوبة، الجدة بمثابة الأم، تُعيد إلى الذاكرة المثل الكردي الشهير "الأعشاب على أصولها، تنمو"، لأن كلاويزخان كانت تعيش في كنف جدتها أثناء طفولتها، وها هي الآن تلعب الدور نفسه لأولاد ابنتها وتُعيد التجربة ذاتها مع أسباطها وتُديم روح التضحية في خدمتهم.

     

  • الكُردايتي، الرفعة والنزوح:

          الكردايتي، بمعنى اختيار حراك سياسي في داخل الوطن وخارجه ضد ما تقوم به الأنظمة المستبدة و الظالمة في العراق، ظهر هذا الحس وهذا الشعور وهذا الحراك منذ سنوات عدة في هذا البلد. وإذا كانت الكُردايتي لكثير من أهالي جنوب كوردستان (إقليم كوردستان العراق)، طريقا نضاليا سار عليه الآباء والأجداد، فكانت لكلاويزخان الطريقة التي بدأ السيرَ عليها الشخصياتُ البارزة في عائلتها أمثال الأستاذ حمزة عبدالله (الخال)، وإبراهيم أحمد (الزوج)، و مام جلال (الصهر)، و هيروخان (الابنة الكبرى)، وتطورت فيما بعد على أيديهم، سواء كل واحد بطريقته أو معا، حيث ناضلوا في فترات نضال الحق لشعب كوردستان و تركوا آثارا كبيرة في الجانب الأدبي والفكري والسياسي والتنظيمي والنضال الحركي والإعلامي و في الحكم والإدارة أيضا.

        مع أن الكُردايتي لم تكن طريقة مفروشة بالورود، بل كانت تتطلب التضحية والحياة القاسية والنزوح والغربة، والمآسي الكثيرة، لكنّها وللذين اختاروها، كانت الطريقة الوحيدة للبقاء مرفوعي الرأس عالي الهمة. لذلك، فإن الكُردايتي عبارة عن تفكير يبدأ في الفكر والوعي وصولا إلى التجسيد في الأفعال التي تتمثل في حب شعبك وتراب وطنك، و ردّ الظالم ومستبد شعبك والابتعاد عن من ظَلَمَه.

        ففي هذه الطريقة الشاقة التي اختارتها كلاويزخان لخدمة وطنها، لجأت هي و زوجها السياسي "مرتين إلى إيران كلاجئين. وكان مام جلال وهيرو في القاهرة عاصمة مصر، وذهبنا نحن إليهما. وكنّا في سوريا فترة، وحينما تأسس الاتحاد الوطني الكردستاني كنا - جميعنا - في القاهرة، أولادي و أبناء أخواتي، واستقرينا في النهاية في لندن العاصمة البريطانية، لأن والد هيرو كان مريضا، وذهبتُ أنا شخصيا معه عدة مرات إلى لندن".

        المشهور عن الكرد أنهم قوم أوفياء لا ينسون أحدا ساعدهم في مرحلة من مراحل حياتهم، فمن هذا الباب تقول كلاويزخان حول تعامل الإنكليز معهم في لندن "تبيّن لي في لندن، أن الإنكليز أناس طيبون، وقد تقرر أن نستقر في لندن بشكل نهائي".

     

  • داء الغربة:

          يوجد في اللغة الإنكليزية مصطلح لوصف الحالة النفسية للمغتربين عن أوطانهم، وهو "هوم سكنس"، أي "مرض الأوطان" أو داء الغربة، وقلّما يوجد شخص ابتعد عن وطنه ولم يصب بهذا الداء. ولم تكن كلاويزخان من هذه القلة، بل أصيبت هي – وهي صاحبة الذوق المرهف أصلا – بهذا الداء، حتى أنها كتبت أولى كتاباتها بتأثير البعد و والابتعاد عن الناس والأهل والشوق إلى أرض الوطن، فتقول "وهكذا ذهبنا إلى لندن، وكنت مفتقدة كردستان، وكتبت شيئا قلت: كردستان، حبيبتي. مشتاق إليكِ، وعندكِ فكري وشعوري، لا مدينةَ ولا وطن... لا فرحَ ولا أملَ باستطاعتها إبعادكِ عن فكري لحظة واحدة. يا كردستان موطنَ أجدادي، قلبي عند البيشمركة، عند (عزيز و هَنَة)، عند أهل المدينة، عند أهل القرى والمعدمين، لأن عدوهم بغيض، وحش و ذئب مفترس، يريد محو الكرد، كي لا يبقى لهم أثر، لكنْ فَلْيَمُتْ فخيالاته تذهب سدى، الكرد باقٍ وسيبقى.. فهذه أولى كتاباتي". وقد ورد في هذا النص المنثور اسمَي (عزيز و هَنَة)، وبعد الاستفسار كشفتْ كلاويزخان أن المقصود بـ(عزيز)، السيد مام جلال، وبـ(هَنَة) عقيلته هيروخان.

     

     

  • البعد عن السياسة:

         على الرغم من الاتصال الوثيق بكردستان، ومع ذلك النضال والجهد الذي بذلتها كلاويزخان بريادة زوجها وصهرها في صفوف الحركة التحررية الكردستانية، لكنّها آثرت - بخلاف الكثيرين من أبناء هذا البلد – الابتعاد عن السياسة، بمعنى عدم الانتماء التنظيمي لأي حزب، تقول "لا أختلط بالسياسة، لا علاقة لي بها، لم أكن عضوا في أي حزب رسميا، حينما أجاز عبدالكريم قاسم للحزب الديمقراطي الكوردستاني للعمل بشكل علني، ذهبت معهم إلى عبدالكريم قاسم، لكنّني لم أدخل في السياسة رسميا، لأنني مستاءة عن السياسة، لكنْ مع ذلك فإني أحب شعبي كثيرا".

     

  • الخبرة القانونية للأستاذ إبراهيم:

          جاء في سيرة الأستاذ إبراهيم أحمد أنه و بين عامي 1953 و 1964، كان سكرتيرا عاما للحزب الديمقراطي الكوردي الذي أسسه المرحوم الملا مصطفى البارزاني في 16من آب 1946، وصار أهم وأقوى حزب سياسي كردي في حينه. وكان الحزب على مستوى العراق معارضا قويا للأنظمة الحاكمة في بغداد. ولكنّ هذا القائد السياسي المناضل، إبراهيم أحمد، كان قبل أن يتوجه نحو الحياة السياسية والنضال الكردي، كان حقوقيا ومحاميا خبيرا وماهرا، لأنه حصل على شهادة البكالوريوس عام 1937 في القانون في كلية القانون بجامعة بغداد. لذلك كان اشتغل حاكمًا في المحاكم في مدينة أربيل وحلبجة عام 1942-1944. وتقول كلاويزخان حول مهارة الأستاذ إبراهيم أحمد "لم يتركوا أبا هيرو كي يزاول مهنة المحاماة. كان أذكى محامٍ حتى وصل الأمر إلى إرسال دعاوى له من القاهرة ليكون محاميا لها. كان مشهورا بالعبقري، حينما كان في المدرسة يقال له العبقري".

       جدير بالذكر أن عددا من القادة المشهورين ضمن التيار السياسي الذي كان يقوده إبراهيم أحمد في الحزب الديمقراطي الكوردستاني، كانوا مميّزين بأنهم خريجو الجامعات وذوو الشهادات العليا، منهم الأستاذ إبراهيم نفسه كما قلنا هو حقوقي، السيد مام جلال أيضا متخرج من كلية القانون/ جامعة بغداد. سافر الأستاذ إبراهيم عام 1975 إلى لندن وابتعد عن الحياة السياسية الكردية، لكنّ المصادر التأريخية تؤكد أن انشقاق هؤلاء النخبة من التيار السياسي المثقف عن الحزب الديمقراطي كان نواة لتأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني في 1/6/1975، و أصبح السيد مام جلال قائدُ الحركة التحررية للشعب الكردي، سكرتيرًا عاما له. وسمي الحزب حزب "الكادحين بالفكر والسواعد"، وكان سببا في اندلاع الثورة الجديدة بعد انهيار الثورة الكوردية السابقة سنة 1975.

     

     

  • "مخاض شعب"، اللبنة الأولى للرواية الكردية:

         يُعَدّ الأستاذ إبراهيم أحمد، وبشهادة الخبراء والباحثين الأكاديميين، كاتبا بارزا في الأدبيات الكردية، وله أشعار غنّى المغنون ببعضها أمثال مقام (شيرين بَهارة) الذي غنّاه المغني الكردي الكلاسيكي الشهير طاهر توفيق، وكذلك "نحن كردٌ و سنبقى كردًا" ألّفت لحنَه ابنته شاناز، وغنّاه حميد بانَيِـي وألّف موسيقاه ع.ج.سكرمة. وتُعد البدايةُ التي بدأ بها الأستاذ إبراهيم أحمد في كتابة الرواية باللغة الكردية عام 1933، انعطافةً أدبية كبيرة في تأريخ الكرد. وقد كتب أيضا رواية "مخاض شعب" عام 1956 التي تعد نبراسا في طريق الرواية في الأدب الكردي و جعلتها شركة سولي فيلم عام 2007 فيلما سينمائيا بالعنوان نفسه، أخرجه جميل روستمي وأُرسِل إلى أكاديمية الفن وعلوم الأفلام في أمريكا لفئة الأفلام الأجنبية في الدورة الثمانين للحفل السنوي لتوزيع جوائز الأوسكار.

         تقول كلاويزخان حول هذه الرواية التي ألّفها زوجها "أحببت كثيرا رواية مخاض شعب، هذه الرواية نابعة من حياتنا، أي حياتنا نحن". ثم عرّفتـنا كلاويزخان بمعلومات ربما تذكر لأول مرة: "كنت في ذلك اليوم أعاني المخاض بولادة ابنتي ليلوز، وكان اليومَ الذي توفي فيه الشيخ محمود الحفيد. وكنّا في ذلك اليوم في كركوك، ذهبوا بجثمانه إلى (الإمام قاسم) قرب مقهى عاشور، وذهب أبو هيرو والأخ المرحوم عمر دبابة وأشخاص آخرون مع جثمانه، وكنت أعاني من المخاض، واضطر أبو هيرو إلى مغادرتي للذهاب مع جثمان الشيخ محمود، وعاد بعد ستة أيام. وحينما عاد، ولدت لي البنت، فقال لي لا بأس كلة – كان يناديها كلة، تدليلا لاسمها كلاويز -، نشأت فكرة رواية في ذهني، قلت: أية رواية؟ قال: مخاض شعب".

     

  •  النتاجات الأدبية:

        تعد كلاويزخان من النساء الكاتبات اللاتي يشار إليهنّ بالبنان في مجال كتابة القصص والروايات والمذكرات. وكانت نتاجاتها الأدبية هي (نحو كهف الشجعان وكانت ثلاثة أجزاء، كنة آتةخان، الدنيا عرين، مسافر ولهان (حيران)، الخادمة، على جناح العنقاء، الخريف والبراعم، رحلة كردستان، أوراق من السيرة الذاتية، أسطورة شعب ناوكردان، ثلاث قصص للأطفال، الأوراق الإدارية لشخص مُبْعَد، الجزء الأول لذكرياتي غير المنسية (أنا))، وقسم من هذه النتاجات الأدبية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، ومن مميزات الأسلوب الكتابي لدى كلاويزخان، أنها تروي بشكل مبسط الواقع السياسي و الاجتماعي في قالب أدبي "أحب أن أكتب بشكل مبسط كي يفهمني القراء كلهم، وليس كالكتّاب اليوم الذين حتى أنفسهم لا يدرون ماذا يكتبون".

     

     

  • التأثير الأدبي للزوج في زوجته:

        كان الحب والتجانس والتفاهم الموجود بين كلاويزخان والأستاذ إبراهيم أحمد مما قل نظيره بين الأزواح، فللزّوج أثر في زوجته، رسم شخصيتها ورسمت شخصيته، وهذه كلها من ضمن عمل تكاملي يعد من أهداف أي زواج ناجح في الحياة الزوجية. تعطي كلاويزخان في هذا الصدد الحق لشريك حياتها الحبيب بأن له فضلا عليها، وله تأثير أدبي على شخصيتها الأدبية، "نعم، له تأثير كبير فيّ. أنا ومنذ طفولتي أحببت الكتاب، وقد كتبت حينها موضوعا أرسلتها إلى صحيفة (السينما والكواكب) عبّرت عن شعوري وإحساسي تجاه الفنانة صباح، وقد نشروها، وفرح بها زوجي كثيرا. وبعدها أشتري الصحف وأقرؤها، وكانت أولى رواية قرأتها هي رواية يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم، وكانت فيها كلمات لم أفهمها، وكذلك نتاجات نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل عام 1988، ونتاجات مكسيم كوركي. أما ما يتعلق بكتابة الكتب فإني قد بدأت بها في منتصف الثمانينات، وكان أول ما كتبته رواية (نحو كهف الشجعان) وكتبت في البداية صفحة. وأريتُه إياها، فقال لي: أحسنتِ، استمري عليها، قلتُ: حقًا؟ قال: نعم، وهكذا بدأت بكتابتها وأنهيتها، فهذه الرواية كانت أول كتاب لي".

     

  • مام جلال، الفائز بالحب المثالي:

          الزمن يشير إلى ما يقارب خمسين سنة منذ أن تزوج مام جلال مع السيدة هيرو ابنة كلاويزخان، فأصبحت كلاويزخان منذ 1970 حماة السيد جلال الطالباني. وكان مام جلال في هذه العلاقة الأسرية هو الفائز بحب لا مثيل له أبْدتْها له حماته كلاويزخان. إضافة إلى كون مام جلال محبوبا من قبل كثير من الأمهات والآباء وأفراد الشعب الكردي عامة باختلاف أعمارهم ومِهَنهم ومستوى ثقافتهم ومكانتهم الاجتماعية والاقتصادية والانتماءات الحزبية والتوجهات الفكرية، لكنّ حب كلاويزخان لمام جلال مختلف عن حب غيرها، إنها أحبّت مام جلال بروحها ومن صميم قلبها، لأن لمام جلال علاقة قوية مع عائلة الأستاذ إبراهيم أحمد وتعرف عليهم قبل أن يتزوج هيروخان، "مام جلال، وقبل أن يكون زوجا لهيرو، كان عمره 16 ربيعا يتردد علينا، وكان أبو هيرو يقول دائما إن الناس يعتقدون أني أحب مام جلال لكونه صهري، لكنّي أحببت مام جلال إلى حد أحببْت أن يكون صهري". وبذلك حقق الحلم لكل من المرشد والمريد، الأستاذ والطالب، إبراهيم أحمد و مام جلال في عام 1970، تقول كلاويزخان في وصف مام جلال: "إنه رجل ذكي ونزيه محب للكرد، غير أناني، لا يعرف الملل والتعب، باعتقادي لا يولد مرة أخرى شخص مثل مام جلال". وحول حبها لمام جلال أضافت: "أولادي كلهم من جهة، ومام جلال وحده من جهة، لا أدري كيف أصفه، وكثير من طباعنا متشابهة". وأثناء حوارنا مع كلاويزخان، أخذته الذكريات بعيدة إلى زمن النضال، زمن لم يألُ مام جلال جهدا لخدمة شعبه، خدمة أفقدته رؤية أولاده، حيث يولدون بعيدا عن والدهم، تروي كلاويزخان أن الأوضاع في نهاية المطاف بدأت بالتحسن، "واستطاع مام جلال أن يأتي إلينا في لندن عبر إيران لرؤية أبنائه، ولاسيما قُباد، الذي لم يره قبل. كانت هيرو ولدت قباد في المستشفى، وكان مام جلال بصدد تأسيس الاتحاد الوطني في ذلك الوقت، فذهب مام جلال ولم ير قباد، وحينما عاد مام جلال إلينا بعد سنوات، فتح له الباب ابنُه قباد، فيقول له: من أنت؟ فقال مام جلال: أنا والدك. وكنت قد أريْتُهم صور مام وهيرو وأقول لهم: هذا والدك وهذه والدتك، قباد لم ير والده مطلقا، لكن بافيل كان أكثر حظا، لأنهم حينما غادروا كردستان إلى سوريا كان بافيل مع والديه فترة، وكان عمره عامين، ثم بعدها وقبل أن يتم الرابعة من عمره أخذْتُه معي إلى لندن".

     

  • كلاويزخان و مام جلال:

    حينما تسنم السيد مام جلال رئاسة الجمهورية العراقية في عام 2005، كأول رئيس جمهورية كردي للجمهورية العراقية، اشتكت كلاويزخان من قلة اللقاء بينهما، "غضبت منه يوما وقلت له: مام جلال! نحن أيضا نحب أن نراك عن قرب، نعم واجبكم صعب جدا وتتعبون كثيرا، لكنّنا أيضا نود أن نتجاذب أطراف الحديث معك. فقال لي: صحيح ما قلتِه كلةخان، (وكان يناديها كلةخان، بدلا من كلاويزخان)، لكن ماذا أفعل، واجبي هكذا، أنا مضطر"، وحول أحب الأسماء التي تنادي بها السيد جلال الطالباني وهو ينادي بها كلاويزخان، أجابت بأنها تناديها "مام جلال، وهو يناديني كلةخان".

     

  • هيروخان:

    هيروخان، الابنة الكبرى لكلاويزخان، هي عقيلة السيد جلال الطالباني، إحدى النساء المناضلات في فترة النضال في الجبال في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. وهي من النساء البارزات اليوم في كردستان، ولها يد الخدمة في عدة مجالات، وكانت هي من تصور أحداث النضال في الجبال، ولها أرشيف غني حول تلك الفترة. تقول أمها، أي كلاويزخان، عن هيروخان "ذاقت هيرو المعاناة، حينما أنجبت الولد الثاني تركتْه وذهبتْ مع مام جلال، وابناه بافيل و قباد، تربّيا عندي، ربّيتُهما وأولادي بدموعي وحسراتي. هيرو، بيشمركة مناضلة في تلك الجبال وضحتّ بالغالي والنفيس".

     

  • عن الزي الكردي:

"الزي الكوردي، تأريخ، مثل قلعة أربيل، مثل قلعة كركوك، هذا تأريخ، ولا يجوز تغييره، لايمكن محوه"، بهذه الكلمات تصف كلاويزخان الزي القومي الكردي، فهل يا ترى، هناك شخص يعبر عن حبه واعتزازه للزي القومي كصاحبة هذه الكلمات؟ إنها لم تفت أي فرصة للتعبير عن حبها للزي الكردي وللتعبير عن سخطها مما حدث لهذا الزي تحت مسمى التصميمات المعاصرة. متى سنحت لها الفرصة، تحدثت وانتقدت وعبّرت، "هناك مصممون يقولون استحدثْتُ زيًّا جديدا، نعم، ولكن لايجوز له أن يقول إنه الزيّ الكردي، لأنه ليس بالزيّ الكردي، هذا التغيير عندي بمثابة جريمة بحق الزي الكردي. الآن في لندن، لو فعل أحد شيئا كهذا يعاقَب، في لندن وفي المناسبات يلبس الرجال التنورة، وهو زيّ سكوتلندي، يلبسه زوج الملكة، ابن الملكة".

وتشكو كلاويزخان ممّا حصل للإملاء الكوردي المعاصر، تقول إنها تقرأ الصحف فترى تغيير الكتابة الإملائية فتشعر بالامتعاض...

هذه كلاويزخان، المرأة التي دخلت رغما عنها في غياهب السياسة منذ أن كانت في ريعان شبابها، انتقلت من بيت سياسي إلى بيت سياسي آخر، خالها سياسي، زوجها سياسي، ابنتها سياسية، صهرها سياسي، لكنّها أبت إلا أن تكون كاتبة أديبة روائية مبعدة نفسها عن مشاغل السياسة، مكتفية بالأدب راحة لها، والرواية واحة لها، والقصائد باحة لها. هي الآن تعيش في السليمانية، بين كتبها وبين أولادها وبناتها.. تقرأ وتكتب...